إشارة إلى الصوفية فى أدب نجيب محفوظ..(1).
صوت الصعيدبقلم- محمود طلبه الفار:
وصف التصوف بأنه طريقة سلوكية قوامها التقشف والتحلى بالفضائل لتزكو النفس وتسمو الروح،وقد لاحظت قلة الدراسات التى تناولت الصوفية فى أدب نجيب محفوظ رغم تواجدها الملحوظ فى الإبداع السردى لعميد السرد العربى وتواجدها النادر فى القليل من الدراسات من أصحاب وصاحبات الكلمة الناقدة وكلهم وكلهن أساتذة أفخر بهم وبضوئهم الذى يشع ويضيئ ويستكشف لنا فى كل يوم المزيد من درر الابداع التى تسعدنا وتثرى وجودنا تماما كما يثرى وجودهم ووجودهن حياتنا ويسعدنا خاصة مع تعدد وجود شخصية الدرويش والصوفى فى العديد من اعماله
بل ذهب بعضهم الى القول بأن شخصية"عبد ربه التائه"فى أصداء السيرة الذاتية هى نفسها النسخة التى انتهى اليها تطور شخصية"كمال عبد الجواد" الفيلسوف الفاشل فى الثلاثية والمعنى المقصود حسب مافهمت هو أن من يتوه فى متاهات الفلسفة يهتدى بالتصوف
ورغم إقتناع أى قارئ وناقد ان محفوظ كان يكتب بحيادية ظاهرة إزاء شخوصه جميعا،ويرسم لكل نموذج إنسانى تناقضه الداخلى العميق وأبعاده النفسية والموضوعية المستقلة عن النماذج الأخرى وعن شخصية المؤلف،ولا تعثر لدى نجيب محفوظ على الشخصية الوحيدة الجانب،حيث أن منطق الفن لديه هو الصراع والتركيب بعيدا عن التسطيح والثبات،الا أننى قرأت رأيا للبعض يرى أن الصوفية هى التى انقذت محفوظ من الحيرة،وهو القائل على لسان"جعفر الراوى" فى رواية"قلب الليل":"لقد أكتشفت عالم العقل وآمنت به،مأساتى الخاصة نشأت بعد تبين الصراع بين عقلى وإيمانى الراسخ بالله،تزعزعت ثقتى فى الإيمان الخالص كما تزعزت فى لغة القلب،كنت أريد علاقة حميمة وإقتناعا لا مفر منه مثل واحد زائد واحد يساوى إثنين.
وهو نفس منطق"عامر وجدى" فى رواية"ميرامار" حين تهامس"لقد تجلى الله لأنبيائه ونحن أحوج منهم الى ذات التجلى"'وفى رواية"القاهرة الجديدة" التى طرحت فيها الأخلاق كبديلا عن الدين بمعنى فلتمسك بالأخلاق وليكن إعتقادك فى الدين كما تشاء لكنه لم يظل بهذا الحياد العقلى لأنه كان محبا لله
كما شاهدنا فى الثلاثية عذاب"كمال عبد الجواد"'الشاب المؤمن الذى تعرض لهزة عقائدية نتجت عن مشكلة عاطفية حادة تزامنت مع دراسته للفلسفة وإنتشار الأفكار الإلحادية،بينما فى رواية"الشحاذ" عكس محفوظ بقدراته السردية الألم الجهنمى للإنسان عندما يفشل ويخفق فى العثور على اليقين،وإنتهت الرواية بجملة شديدة الإيلام"إذا كنت تريدنى حقا فلم هجرتنى؟".
كذلك فى رواية "الطريق" التى كان الشاب فيها يبحث عن أبيه الغائب،وأديت الادوار ببراعة عندما تحولت من نص مكتوب على الورق الى صور ناطقة فى فيلم سينمائى ابدع فيه الفنان/رشدى أباظة،والفنانة/شادية والسندريلا/سعاد حسنى ببراعة مشهودة نالت كل الاعجاب،تعددت الاشارات الى رموز كثيرة لهذا الأب أحدها كان يرى انه يرمز"للرب"'ثم دلف محفوظ إلى عالم الصوفية الزاخر بأسرار الروح بعد أن تيقن من فشل العقل فى توفير الراحة المنشودة
وكانت الصوفية بمثابة الواحة للمعذبين،ثم إنتقل بنا من الشيخ الصوفى فى"اللص والكلاب" الى ملحمة"الحرافيش" التى دارت بشكل شبه كامل فى عالم التكايا والاناشيد الغامضة الجميلة،وقد ترجم محفوظ نفسه كل ذلك بقوله:لقد آمن القلب فشد العقل وراءه،وانتهت الحيرة تماما فى رواية"رحلة ابن فطومة"المؤمن بالله الذى ترك دياره سخطا على سوء فهم المسلمين للاسلام ورفض الجمود
وفى كل هذا كان محفوظ عاشقا للكتابة،بل انه اعرب عن حلمه فى مواصلة الكتابة من العالم الآخر فقال:"لو كنت اعلم علم اليقين بأننى سأمارس الكتابة فى العالم الآخر وأنجز مالم استطع إنجازه من أعمال على الأقل سأرتاح نفسيا"؛وتحتوى قصة"زعبلاوى" وهى قصة رمزية له نشرت عام1961 ثم اعيد نشرها فى مجموعة"دنيا الله" سنة1972 على ملمح صوفى كذلك ،وفيها يتضح كيف أثرت الفلسفة وأتاحت لمحفوظ طرح قضايا تمس القيود والأعراف والتمرد على الضوابط،وهى تحتوى أيضا وبوضوح على سمات الطابع الصوفى وإن كان ذلك بشكل نسبى
وقد عبر أديبنا عن ذلك ضمنا بقوله"عندما وضعت لنفسى برنامجا للتثقيف الذاتى فى بداية حياتى كان جزء كبير من هذا البرنامج يتعلق بدراسة الديانات الكبرى وتاريخ الحضارة وقد استغرقتنى الكتابات الصوفية والاسلامية،ورغم أننى لا اومن بأفكار الصوفية ومعتقداتهم كما يؤمن بها المتصوفون فإننى وجدت فى قراءة كتبهم وتأملها راحة عقلية ونفسية كبيرة،وقد جذبتنى فى الصوفية فكرة السمو الروحى، وفى المقابل لم أقتنع بفكرة رفض الدنيا،فلا اتصور مذهبا دينيا يرفض الدنيا أبدا"'وهذه القصة"اقصد زعبلاوى" تعتبر رحلة من العلم الى الفن الى الحدس الصوفى
وقد أكدت القصة وجود الزعبلاوى الذى كان يبحث عنه بطل القصة ولكن تعذر لقائه او الوصول اليه،وكان يرمز لسعى الانسان المعاصر للبحث عن "الله" فى عالم فاسد بعد استسلام الانسانية للمادية،او هكذا فسر من البعض الرمز فى القصة،وقد قسم محفوظ أهل الفكر من حيث نظرتهم الى وجود "الله" الى فئات ثلاث،فئة ترى "الله"بعين العقل والمنطق وهم الفلاسفة،وفئة تحاول إخضاع الفكرة للمناهج العلمية مستعينة بالتجربة والإستقراء وهم العلماء وفئة ثالثة تبذل الجهد للإقتراب من الله بالقلب والشعور وهم طائفة المتصوفون ،وهو شخصيا يميل الى موقف الصوفيين.