أرض الأسرار.... وتجارة الآثار
صوت الصعيدبقلم - الدكتور أيمن عبد العظيم :
لا توجد أرضٌ في الدنيا تحوي فيضًا من الأسرار مثلما تحوي أرضُ مصرنا المحروسة، إن شِئتَ ثقافة وجدت فوق ظاهرها أعرق الثقافات، وإن شئت معادن وجدت في باطنها أضخم الثروات، ومنهما تمتزج حضارة أصيلة تمتد جذورها إلى أقدم عصورها التاريخ، وتمتد فروعها إلى آلاف السنوات القادمة بمشيئة الله تعالى.
ظلَّ الإنسان المصري طوال آلاف السنين يواجه الصعوبات، ويكابد الأزمات، ويرد عن أرضه الاعتداءات دون أن يمسَّ آثاره التي تركها أجداده بسوء، فلم يقربها إلا بتعظيم، ولا يتحدث عنها إلا باحترام، إلى الحدِّ الذي كان يرى في منجزات حضارته تراثًا نقيًا تركه أجداده للإنسانية كلها، والحقيقة أنَّ ما تركه أجدادنا من آثار وأسرار هو جدير بالإعجاب بقوة الإنسان المصري وذكائه في آن واحد.
لقد جمعت حضارتنا في كل عصورها بين المتعة والفائدة، فأكواب الماء وأطباق الطعام جاءتنا منقوشة بإبداع أمهر الفنانين المصريين، تستمتع برؤيتها، وتتوقف طويلًا متأملا جمالها، ولكنها في الوقت نفسه، كانت للفائدة فقد كانت الأكواب والأطباق وغيرها مستخدمة في تفاصيل الحياة اليومية، والأهرامات التي تتجلى فيها عبقرية المهندسين المصريين قياسًا وتنفيذًا ومشهدًا ممتعًا للناظرين، هي في الوقت نفسه مقابر تحفظ أعظم ملوك حضارتنا، فكانت آثارنا بذلك فريدة في وظيفتها الفنية التي جمعت بين المتعة والفائدة، ومساجدنا التي يخشع فيها الوجدان، ويسكن فيها الفكر عبادة لله الواحد، صممها المهندسون العرب على ذوق رفيع وفنٍ بديع، فجمعت أيضًا بين المتعة والفائدة.
نظرتنا نحن المصريين إلى الأجداد والأنساب ليست مستمدة من مصدر عربي فحسب، فالفراعنة أيضَا كانوا مغرمين بتقسيم العائلات، وتبيين الأسر المتفرعة منها، لقد ورثنا عن أجدادنا تراثهم المادي وورثنا تراثهم الثقافي أيضًا، وكما نرفض المساس بآبائنا وأجدانا بشخصيتهم وأعمالهم وثقافتهم وأقوالهم، فإننا عشنا على الدوام نرفض المساس بآثارهم المادية على اختلاف أنواعها من قصور وحصون ومعابد وقلاع ووثائق وغيرها.
غير أن تغيرًا جديدًا طرأ على سمات الشخصية المصرية، تغيرٌّ قصير في عمره، خطير في أثره، استشرى كالنهار في الهشيم، خلال العقود الخمسة الأخيرة، فبعد أن كان الناس يرون أن الدولة وحدها المنوط بها البحث عن الآثار وفق دراسات علمية وجهود حكومية منظمة، ثم عرض هذه الآثار وتقديمها، باتوا يبحثون بأنفسهم عن الآثار، ينقبون عنها في كل مكان، يسعون إليها، ويتقاتلون عليها.
الآثار! وما أدراك ما الآثار! نهم وانبهار، وثروة بالدولار، وأحلام الثراء السريع تداعب خيال الفقراء، وتلهو بأفكار البسطاء، نهضت الفكرة الخبيثة في عقول أبناء الوطن، واشتعلت كالنار في الهشيم، عصابة هنا، وأسرة هناك، محاولة هنا، وجريمة هناك، وسباق غير مُعلن! لماذا؟؟!! للتبرع للوطن؟؟ لبناء المدارس والجامعات؟؟ لتربية النشء؟؟ لترقية الثقافة والفنون؟؟ لا، ولكنه سباق لاستخراج آثار الوطن وبيعها.
في كل مكان أصبح الناسُ ينقبون عن الآثار، في الصعيد، في الدلتا، حتى في القاهرة، وهم في ذلك لا يفرقون بين آثار قديمة، أو آثار من العصور الوسطى، أو من الفترة الحديثة، في النهار يتذمرون علنًا من ارتفاع أسعار السولار، وفي الليل ينقبون سرًا عن الآثار.
تغيرت النظرة الاجتماعية التقليدية إلى أسباب الثراء، فلم يعودوا يرون الثراء نتيجة للكد والجهد، ولم يعودوا يرون أن العلم وحده سبب تغير حياة الإنسان إلى الأفضل، الآن باستطاعتك أن تستمع إلى أحاديث تتلى، وأقاصيص تروى عن ثراء بعض الناس مؤخرًا إنَّ ذلك يعود لتجارة الآثار، لم يعودوا يؤمنون بالصبر، بل باتوا يؤمنون بالكسب السريع، ويقدسون كل وسيلة تبلغهم الكسب السريع، وباتوا ينامون على آمال الثراء، ويستيقظون من أحلام الثراء.
والذين لا يتورعون عن تحقيق غاية مشبوهة، لن يتورعوا أيضًا عن تزييف حقيقة السعي إلى هذه الغاية، فهذا السَّعيُ ــ عندهم ــ له تفسيراتٌ مشروعةٌ، بعضهم يحدثونك بالمنطق، ويقولون لك: هذا عمل واجتهاد وكلُّ إنسان له من جدِّه نصيب، وبعضهم من ذوي المعرفة الدينية، يقول لك: إنها ركاز، ألم تسمع يا أستاذ عن الركاز؟!! وآخرون يقولون لك: " إنها تجارة يا محترم، والتجارة شطارة" لقد اقتنعوا بما يفعلون، وباتوا يقنعون به الناس، رضِيَتْ عقولهم بحقائقَ مزيفةٍ، فباتوا يخلطونها بكل جميل طيب عند الناس، حتى يسوغوا لأنفسهم ما يفعلون.
أمَّا وسائل البحث فحدِّث عنها ولا حرج عليك، بعضهم يستخدم الخرائط، وغيرهم يستدلون بأقوال الكبار الذين ضلّت ذاكرتهم، فيهيمون خلف قصة هنا، ويتتبعون أثر أقصوصة هناك، أمَّا الفريق الأشهر والأخطر، فأولئك الذين يستعينون بطرق السحر، وطرائق الشعوذة، فيرتبكون جريمة فوق جريمة، وينشرون شرًا فوق شر، ويعمقون ثقافة الجهل المركب، فيكونون بفعلهم هذه الجريمة أعداء للدين، وأعداء للدولة، وأعداء للمجتمع، ويكونون قبل هذا وبعده أعداء لأنفسهم، ومن الذي يظنُّ نفسه رابحًا إذا عادى هؤلاء جميعًا.
لقد سعى هؤلاء إلى غاية الكسب السريع، ففقدوا أنفسهم في الطريق، ولا أدري بأي حق ــ إن هم نجحوا في ذلك ــ يتعالون على الناس بأموالهم، ويطلبون من الكادحين إجلالهم، ماذا فعلوا؟؟!! ماذا قدُّموا؟ ماذا أعدُّوا من الجواب عند لقاء الله للحساب؟ سيقول الكادحون: كنَّا نزرع، أو كنَّا نصنع، أو كنَّا نتَّجر، ولكن ماذا سيقول المنقبون عن الآثار؟ كيف سيكون منهم الجواب يوم الحساب؟ هل سيقولون: جمعنا مالنا من التنقيب عن الآثار في أرض الأسرار؟ لم نفد منها علمًا، ولم نحترفْ فيها عملًا، ولكن سرقنا الوطن وزدنا عليه المحن في أصعب فترات الزمن.
نسى هؤلاء ــ أو تناسوا ــ أنَّ ثروات الوطن هي لكل أبناء الوطن، وأنه ليس من حق أحد أن يستأثر على الناس بشيء من ملكهم، أو أن يختص لنفسه شيئًا هو من المال العام، وأنَّ سرقة الآثار لا تقلُّ ــ في كلِّ التصورات ــ عن سرقة الأراضي، وأنَّ الإتجار في الآثار لايقلُّ خطورة عن الإتجار في المخدرات، كلاهما يخرب الوطن، ويمنع أبناء الوطن من الوصول إلى ثرواتهم المادية أو البشرية، وإذا كان هؤلاء قد نجحوا وربحوا في ظلِّ ضعف التشريعات القانونية، فإنَّ ما نرجوه من إخوتنا التشريعيين أنْ يلتفتوا إلى قضية سرقة الآثار، وأنْ يحدُّوا منها بوضع أشدِّ التشريعات القاهرة والزاجرة لهؤلاء الذين يبيعون الوطن متمثلا في بيع فنونه وثقافته.
إنَّ هؤلاء المجرمين بلغوا في شناعة جرمهم أنهم حرمونا ــ بعد أن تقدمت علينا بعض الشعوب ــ من روعة مآثرنا، ومن أمجاد ماضينا، وإنَّ القارئ ليدهش من كثرة الآثار المصرية في الخارج، كيف تحمل هؤلاء مشقة نقل هذه التماثيل والمومياوات، وغيرها من قطع الآثار إلى دول أخرى في أوربا وآسيا.
إنَّ التوصل إلى تشريع قوانين حازمة تعاقب المجرمين الذي ينقبون عن الآثار ويبيعونها هو نجاح يجدر بنا الإسراع إليه، وبخاصة أنَّ لدنيا أبرع القانونيين، وأروع التشريعين، حتى نوقف هذا النزيف الخطير، أمَّا التربويون فعليهم التوعية والإرشاد، وتصحيح المفاهيم، وإعادة الإنسان إلى رشده، لنترك المجال للدولة بعدها في العمل على استرجاع هذه الآثار المفقودة، بما لدينا من علاقات حسنة مع كافة شعوب العالم،
ينبغي لنا جميعًا أنْ نفهم أن الآثار ملك الوطن كله ومسؤولية المواطنين جميعهم، فحينما تركها أصحابها لم يقولوا إنَّها لهذا الشخص دون غيره ليأخذها خفية ويبيعها، بل هي ملك الإنسانية كلها؛ كونها تراثًا إنسانيًا عريقًا، ولا أدري كيف تغيرت شخصية الإنسان المصري المحب للتراث المتمسك بالقديم بكل صوره وأشكاله، كيف انحرف بعض المصريين فزلَّت خطاه وضلَّ مسعاه، وأصبح يبيع آثار بلاده.