الثقافة النهرية وحب الوطن
صوت الصعيدبقلم أ.د -غيضان السيد علي :
كان المؤرخ اليوناني القديم " هيرودت" موفقاً إلى حدٍ بعيدٍ في مقولته الخالدة بأن " مصر هبة النيل "، فالنيل هو سر الخلود وإكسير الحياة ، فقد وهب الحياة لمصر منذ أقدم العصور، فقامت على ضفافه أروع حضارة عرفها التاريخ ، فما زال العلم الحديث عاجزا أن يفك كل طلاسم شفرتها العلمية العبقرية، وما تزال منجزاتها الطبية والهندسية تشعر جميع الحضارات الراهنة بأنهم ما زالوا أطفالا أمام نضجها وتقدمها.
فعلى ضفاف النهر الخالد قامت الحضارة المصرية القديمة ، وأصبحت مصر هي قبلة العالم أجمع ، فصارت الحصن والملاذ لكل خائف وجائع ومحتاج ولكل طالب علم أو عمل أو دنيا أو دين ، فعرف أهلها التوحيد والبعث والحساب منذ فجر التاريخ .
فكان ارتباط أبناء مصر بأمهم ارتباطاً خالصاً، فلم تشوبه أبدا شوائب اختلاف الدين أو العقيدة أو النعرات القبلية أو الطائفية؛ ويكفي أن أذكر هنا المصري اليهودي كوهين( المتبرع بقصره الكائن بالزمالك للسفارة الجزائرية) الذي أخبر وزير الثقافة المصري ثروت عكاشة بمجيء العدوان الثلاثي على مصر قبل موعده بفترة كافية للاستعداد . وبالقس المسيحي المصري - من قبله – الذي صرخ في وجه الاحتلال الانجليزي قائلاً :" إذا كان الاستعمار الانجليزي قد جاء – كما يدعي- لحماية الأقباط في مصر فليمت القبط وليعش المصريون أحراراً".
فثقافة النهر هي ثقافة الحب والسكن ، فمن يعيش مرتبطا بالنهر لا يستطيع أن يهجره ويرحل ، فهو يحرث الأرض ويبذر البذور ثم ينتظر الفيضان الذي يغمر الأرض فينبت النبات الذي يتعهده بالرعاية والاهتمام حتى يهيج فيراه مصفراً في موسم الحصاد فيجني ما زرع من خضار وفاكهة وما سمن من طير وحيوان ، فيرتبط بالمكان ويهيم عشقاً به بل ويتغنى به وبأمجاده .
هذا على عكس الثقافة الصحراوية التي لا تعرف الارتباط بالأرض ولا بالمكان، فهم – في الغالب – بدو رُحَّل أو أشباه رُحَّل ينتقلون من مكان إلى مكان حسب وجود الكلأ والماء، فلا وجود لديهم لفكرة الوطن إلا ما وجد فيه العشب والماء فإذا نضب لم يعد وطنا؛ بل أنهم لا يتورعوا في تركه خرابا بعد أن تسلموه عماراً .
والثقافة النهرية تجد دائما أهلها مسالمين متعاونين على أعمال الخير، فأعمال الزراعة تتطلب تضافر الجهود لتحصيل الأرزاق. أما أصحاب الثقافة الصحراوية فقد اعتمدوا في تحصيل أرازقهم على الإغارة والغزو والسلب والنهب للقبائل المجاورة، وقطع طرق القوافل التجارية وغيرها فكان تعاونهم الوحيد على الإثم والعدوان. ولذلك كله فلا معنى عندهم لكلمة الوطن ولا قدسية لوحدته وترابطه . فلا ضير أن يتمزق ويتفتت ويصير دويلات متناحرة تقتتل باستمرار من أجل ما تجود به الطبيعة من خيرات عليهم، لا من أجل ما زرعت أيديهم أو صنعت!
وعلى يد الثقافة النهرية تُفضح المؤامرات وتنحسر؛ فتفضح مصر غدر المتآمرين على تقسيمها إلى دويلات على أسس دينية وطائفية، ويتصدى شعبها صاحب الثقافة النهرية المتشبع بحب الوطن للمؤامرة وينجح في التصدي لها.