انفخ ما في الجيب .. ليس ينفعك الطبيب
صوت الصعيدبقلم - الدكتور أيمن عبد العظيم :
ما أعجبَ هذه الحركة التي طرأت على البشرية في القرون الأخيرة! ورقة بيضاء مملوءة بالتبغ توضع بين إصبعين، ثم نقربها من الفم، لنستنشقها فنشعر بالسعادة والراحة، كيف كانت حالنا قبل هذه العادة الشنيعة؟ حتى الحيوانات في الغابة لاتراها ترفع أرجلها إلى فمها بسيجارة يتطاير منها الدخان، باتت السيجارةُ أقربَ إلينا من أهلنا وذوينا، باتت السيجارة صديقة المدخن في حزنه سروره، وصديقته في فخره وكبريائه، يلتقط بها الناس الصور في شتى حالاتهم الوجدانية، ويخترعون في كل وقت زوايا وإطلالات جديدة مع السيجارة.
ظنَّ الناسُ ــ وظنُّهم خاطئ بالطبع ــ أنَّ التدخينَ ملاذٌ للمهمومين، وملجأ للمكروبين، وأنَّ من أسرعَ إلى السيجارة أسرعَ إلى حِصنٍ صادقٍ في وعده بالسعادة والراحة، وأنَّهم في استقرار نفسي مادامت جيوبهم مملوءة بالسجائر، نسي هؤلاء أنَّ السيجارة، مخدر مؤقت، يُنسيك الهمومَ دقيقة، ثم لا تلبث أن تتذكرها شديدةً من جديد، فتتذكر معها السيجارة، فتُشعل القداحة وتُحرق سيجارة بعد سيجارة، لينتهي يومُك وقد حطَّمت رقمًا قياسيًا في عدد السجائر، وهكذا هي دوامة مستمرة، لتكتشف بعد ردحٍ من الزمن أنَّ القدَّاحات لن تنفدَ، وأنَّ السجائرَ لن تنتهي، وأنَّ جسدك هو الذي تقل كفاءته يومًا بعد يوم.
ولقد أبدع المسوقون في فنون تسويق التدخين، فتارة يصورون التدخين على أنَّه من عادات الأغنياء، وتارة يصورونه على أنَّه من سلوكيات العظماء، وأحيانًا يقدمون صورًا دعائية لأنواع السجائر عبر صورة فارس على حصانه وهو يمسك بالسيجارة، أو لسياسي شهير يدخن، وهكذا مع كل عصر يأخذ فن تسويق السجائر أشكالًا كثيرة، وصورًا متعددة، والرسالة الخفية بالطبع هي إنَّك ما دمت معجبًا بهذا الشخص أو ذاك، فإنك سوف تكون معجبًا بعاداته ومنها التدخين.
في مصر لدينا عشرون مليونًا من المدخنين، يتناولون كافة أنواع السجائر المحلية والعالمية، والحمد لله إنَّها نسبة قليلة بالقياس إلى عدد المصريين الكبير، ولكنَّ عشرين مليونًا ليس نسبة قليلة في ذاتها، فزبائن السجائر هم أنفسهم زبائن الأطباء، وأرباب التدخين هم أنفسهم الطارقون على أبواب الحشيش والهيروين، وهذا فالمشكلة في التدخين تتجاوز كونه سلوكًا سيئًا خطيرًا إلى سلوك تتضاعف فيه الأضرار.
ليت شعري هؤلاء الذين ينفخون في السجائر ــ إنْ كان النفخ عملهم وأملهم ــ ماذا لوكانوا ينفخون في شيء مفيد، فلو نفخوا في آلات نفخ نحاسية، لأنتجوا لها الكثير من الألحان، ولو كانوا ينفخون في بالونات الأطفال، لأسعدوا الصغار في كل مكان، ولكنهم ينفخون ويبعثون الدخان، فرضي عنهم الشيطان، وجسدوا لنا معنى الإدمان.
حذر القرآن الكريم المؤمنين من كيد الشيطان، ثم حذر أولى الألباب من مؤاخاة الشياطين، وضرب لنا مثلا بالتبذير، فالمبذرون إخوان الشياطين، ولكنَّ المبذرين بالتدخين بلغت أخوتهم للشياطين حدًا بعيدًا، حرموا أنفسهم من نعمة الله، وحرموا الناس من العطاء، ثم أخذوا يوجهون سهام الموت لأنفسهم دخانًا ومرضًا وعناء.
وجزى الله الشاعر كل خير حين حذَّر من التدخين في قصيدة قال فيها:
هو التَّدخينُ يفتكُ بالحَنَايَا
ويُلقِي فِي نِيَاطِ القَلبِ جَمْرَا
يُجَرِّبُه الفَتَى فِي نَوعِ زَهْوٍ
يَرُومُ بِشُربِهِ كِبرًا وَفَخْرَا
فَيَسْرِي فِي الدِّمَا يَومًا فَيَومَا
وَيَملِكُ قَلبَهُ قَيدًا وَأَسْرَا
فَهَلْ هُو عَاقِلٌ مَنْ بَاتَ فِعْلًا
يَشُقّ لِنَفْسِهِ فِي الأرْضِ قَبْرَا؟
في كل زمن تتطور ممارسة التدخين بشكل سريع، من تدخين "الشيشة" و "السيجارة" إلى تدخين الحشيش والمخدرات، ثم تطورت مكانيًا في انتشار واسع للمقاهي في كل مكان، فأنت أينما ذهبت وجدت صفوف الشيشة جاهزة، ومقاعد المدخنين منظمة حتى يمارسوا عليها هوايتهم في إخلاص شديد.
من المؤسف في مجتمع فقير أن تجد كل هذا العدد من متاجر بيع التبغ، وكل هذا العدد من المقاهي لممارسة التدخين، وقبل هذا كله نجد كثيرًا من شركات السجائر ومصانع الدخان تعمل ليلًا ونهارًا على مدار الساعة، تضم آلافًا من العاملين الذي يعملون بهمة ونشاط، وما النتيجة في النهاية؟ النتيجة المعروفة هي كثرة الأمراض الخطيرة في المجتمع، ولاعجب في أننا ننفق على علاج آثار التدخين ضعف ما ننفقه على التدخين نفسه.
لم تفلح فتاوى حرمة التدخين في إيقاف هذا الجرح الذي ينخر في جسد المجتمع، ولم تفلح توجيهات وزارة الصحة وملصقاتها الإرشادية في التخويف من الأضرار الصحية الناجمة عن التدخين، وبيان أنَّه عامل خطورة يزيد الأمراض الأخرى سوءًا، بل حتى القوانين التي تتخذها الدولة بحظر التدخين في المؤسسات الحكومية، وفي وسائل المواصلات العامة، وفي المستشفيات، كلها لم تفلح في ردع انتشار ظاهرة التدخين.
ويبقى السؤال الأهم، كم سيكون رصيد الوطن من المال إذا لم يكن لدينا هذا العدد الكبير من المدخنين؟ كيف ستكون حياتنا دون السيجارة؟ الحقيقة إنني لا أرى فرقًا بين السائق الذي عليه أن ينتبه لنفسه في الطريق لعلَّه يرجع إلى أسرته سالمًا، وبين المدخن الذي تنتظر أسرته سلامته، وأن يعود إليها خاليًا من هذا الداء اللعين، حتى يقوم بواجبه نحو أسرته رعاية واهتمامًا، قبل أن تتدهور صحته، ويبيت مثل صغاره محتاجًا إلى العناية والرعاية.
يقول مثلنا الشعبي:" اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب" لكنَّ المدخنين أخذوا نصفه الأول، ورفعوا شعار: " انفخ ما في الجيب"، وصدقوا فيما قالوا، فقد نفخوا ما في الجيب حتى تطايرت أموالهم وأدخنتهم وصحتهم.